فصل: سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عدة حوادث:

في ذي القعدة، التاسع عشر منه، وقع حريق عظيم ببغداد بعقد المصطنع فاحترقت المربعة التي بين يديه، ودكان ابن البخيل الهراس، وقيل كان ابتداؤه من دار ابن البخيل. ثم دخلت:

.سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة:

.ذكر ملك شهاب الدين بهنكر وغيرها من بلد الهند:

في هذه السنة سار شهاب الدين الغوري، صاحب غزنة، إلى بلد الهند، وحصر قلعة بهنكر، وهي قلعة عظيمة منيعة، فحصرها، فطلب أهلها منه الأمان على أن يسلموا إليه، فأمنهم وتسلمها، وأقام عندها عشرة أيام حتى رتب جندها وأحوالها وسار عنها إلى قلعة كوالير، وبينهما مسيرة خمسة أيام، وفي الطريق نهر كبير، فجازه، ووصل إلى كوالير، وهي قلعة منيعة حصينة على جبل عال لا يصل إليها حجر منجنيق، ولا نشاب، وهي كبيرة، فأقام عليها صفراً جميعه يحاصلها، فلم يبلغ منها غرضاً، فراسله من بها في الصلح، فأجابهم إليه على أن يقر القلعة بأيديهم على مال يحملونه إليه، فحملوا إليه فيلاً حمله ذهب، فرحل عنها إلى بلاد آي وسور، فأغار عليها ونهبها، وسبى وأسر ما يعجز العاد عن حصره، ثم عاد إلى غزنة سالماً.

.ذكر ملك العادل مدينة دمشق من الأفضل:

في هذه السنة، في السابع والعشرين من رجب، ملك الملك العادل أبو بكر ابن أيوب مدينة دمشق من ابن أخيه الأفضل علي بن صلاح الدين.
وكان أبلغ الأسباب في ذلك وثوق الأفضل بالعادل، وأنه بلغ من وثوقه به أنه أدخله بلده وهو غائب عنه، ولقد أرسل إليه أخوه الظاهر غازي، صاحب حلب، يقول له: أخرج عمنا من بيننا فإنه لا يجيء علينا منه خير، ونحن ندخل لك تحت كل ما تريد، وأنا أعرف به منك، وأقرب إليه، فإنه عمي مثل ما هو عمك، وأنا زوج ابنته، ولو علمت أنه يريد لنا خيراً لكنت أولى به منك. فقال له الأفضل: أنت سيء الظن في كل أحد؛ أي مصلحة لعمنا في أن يؤذينا؟ ونحن إذا اجتمعت كلمتنا، وسيرنا معه العساكر من عندنا كلنا، ملك من البلاد أكثر من بلادنا، ونربح سوء الذكر.
وهذا كان أبلغ الأٍسباب، ولا يعلمها كل أحد، وأما غير هذا، فقد ذكرنا مسير العادل والأفضل إلى مصر وحصارهم بلبيس، وصلحهم مع الملك العزيز بن صلاح الدين، ومقام العادل معه بمصر، فلما أقام عنده استماله، وصلحهم مع الملك العزيز بن صلاح الدين، ومقام العادل معه بمصر، فلما أقام عنده استماله، وقرر معه أنه يخرج معه إلى دمشق ويأخذها من أخيه ويسلمها إليه، فسار معه من مصر إلى دمشق، وحصروها، واستمالوا أميراً من أمراء الأفضل يقال له العزيز بن أبي غالب الحمصي، وكان الأفضل كثير الإحسان إليه، والاعتماد عليه، والوثوق به، فسلم إليه باباً من أبواب دمشق يعرف بالباب الشرقي ليحفظه، فمال إلى العزيز والعادل، ووعدهما أنه يفتح لهما الباب، ويدخل العسكر منه إلى البلد غيلة، ففتحه اليوم السابع والعشرين من رجب، وقت العصر، وأدخل الملك العادل منه ومعه جماعة من أصحابه، فلم يشعر الأفضل إلا وعمه معه في دمشق، وركب الملك العزيز، ووقف بالميدان الأخضر غربي دمشق.
فلما رأى الأفضل أن البلد قد ملك خرج إلى أخيه، وقت المغرب، واجتمع به، ودخلا كلاهما البلد، واجتمعا بالعادل، وقد نزل في دار أسد الدين شيركوه، وتحادثوا، فاتفق العادل والعزيز على أن أوهما الأفضل أنهما يبقيان عليه البلد خوفاً أنه ربما جمع من عنده من العسكر وثار بهما، ومعه العامة، فأخرجهم من البلد، لأن العادل لم يكن في كثرة؛ وأعاد الأفضل إلى القلعة، وبات العادل في دار شيركوه، وخرج العزيز إلى الخيم فبات فيها، وخرج العادل من الغد إلى جوسقه فأقام به وعساكره في البلد في كل يوم يخرج الأفضل إليهما، ويجتمع بهما، فبقوا كذلك أياماً، ثم أرسلا إليه وأمراه بمفارقة القلعة وتسليم البلد على قاعدة أن تعطى قلعة صرخد له، ويسلم جميع أعمال دمشق، فخرج الأفضل، ونزل في جوسق بظاهر البلد، غربي دمشق، وتسلم العزيز القلعة، ودخلها، وأقام بها أياماً، فجلس يوماً في مجلس شرابه، فلما أخذت منه الخمر جرى على لسانه أنه يعيد البلد إلى الأفضل، فنقل ذلك إلى العادل في وقته، فحضر المجلس في ساعته، والعزيز سكران، فلم يزل به حتى سلم البلد إليه، وخرج منه، وعاد إلى مصر، وسار الأفضل إلى صرخد، وكان العادل يذكر أن الأفضل سعى في قتله، فلهذا أخذ البلد منه، وكان الأفضل ينكر ذلك ويتبرأ منه {فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} البقرة 113.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في المحرم، هبت ريح شدية بالعراق، واسودت لها الدنيا، ووقع رمل أحمر، واستعظم الناس ذلك وكبروا، واشتعلت الأضواء بالنهار.
وفيها قتل صدر الدين محمود بن عبد اللطيف بن محمد بن ثابت الخجندي، رئيس الشافعية بأصفهان، قتله فلك الدين سنقر الطويل، شحنة أصفهان بها، وكان قدم بغداد سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، واستوطنها، وولي النظر في المدرسة النظامية ببغداد، ولما سار مؤيد الدين بن القصاب إلى خوزستان سار في صحبته، فلما ملك الوزير أصفهان أقام ابن الخجندي بها في بيته وملكه ومنصبه، فجرى بينه وبين سنقر الطويل شحنة أصفهان للخليفة منافرة فقتله سنقر.
وفي رمضان درس مجير الدين أبو القاسم محمود بن المبارك البغدادي، الفقيه الشافعي بالمدرسة النظامية ببغداد.
وفي شوال منها استنيب نصير الدين ناصر بن مهدي العلوي الرازي في الوزارة ببغداد، وكان قد توجه إلى بغداد لما ملك ابن القصاب الري.
وفيها ولي أبو طالب يحيى بن سعيد بن زيادة ديوان الإنشاء ببغداد، وكان كاتباً مفلقاً، وله شعر جيد.
وفي صفر منها توفي الفخر محمود بن علي القوفاني الفقيه الشافعي بالكوفة، عائداً من الحج، وكان من أعيان أصحابه محمد بن يحيى.
وفي رجب منها توفي أبو الغنائم محمد بن علي بن المعلم الشاعر الهرثي، والهرث بضم الهاء والثاء المثلثة قرية من أعمال واسط، عن إحدى وتسعين سنة.
وفي رابع شعبان منها توفي الوزير مؤيد الدين أبو الفضل محمد بن علي بن القصاب بهمذان، وقد ذكرنا من كفايته ونهضته ما فيه كفاية. ثم دخلت:

.سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة:

.ذكر إرسال الأمير أبي الهيجاء إلى همذان:

في هذه السنة، في صفر، وصل إلى بغداد أمير كبير من أمراء مصر اسمه أبو الهيجاء، ويعرف بالسمين، لأنه كان كثير السمن، وكان من أكابر أمراء مصر، وكان في إقطاعه أخيراً البيت المقدس وغيره مما يجاوره، فلما ملك العزيز والعادل مدينة دمشق من الأفضل، أخذ القدس منه ففارق الشام، وعبر الفرات إلى الموصل، ثم انحدر إلى بغداد، لأنه طلب من ديوان الخلافة، فلما وصل إليها أكرم إكراماً كثيراً، ثم أمر بالتجهيز والمسير إلى همذان مقدماً على العساكر البغدادية، فسار إليها والتقي عندها بالملك أوزبك بن البهلوان وأمير علم وابنه، وابن سطمس وغيرهم، وهم قد كاتبوا الخليفة بالطاعة، فلما اجتمع بهم وثقوا به ولم يحذروه، فقبض على أوزبك وابن سطمس وابن قرا بموافقة من أمير علم، فلما وصل الخبر بذلك إلى بغداد أنكرت هذه الحال على أبي الهيجاء، وأمر بالإفراج عن الجماعة وسيرت لهم الخلع من بغداد تطيباً لقلوبهم، فلم يسكنوا بعد هذه الحادثة ولا أمنوا، ففارقوا أبا الهيجاء السمين، فخاف الديوان، فلم يرجع إليه، ولم يمكنه أيضاً المقام، فعاد يريد إربل لأنه من بلدها هو، فتوفي قبل وصوله إليها، وهو من الأكراد الحكمية من بلد إربل.

.ذكر ملك العادل يافا من الفرنج وملك الفرنج بيروت من المسلمين وحصر الفرنج تبنين ورحيلهم عنها:

في هذه السنة، في شوال، ملك العادل أبو بكر بن أيوب مدينة يافا من الساحل الشامي وهي بيد الفرنج، لعنهم الله.
وسبب ذلك أن الفرنج كان قد ملكهم الكند هري، على ما ذكرناه قبل، وكان الصلح قد استقر بين المسلمين والفرنج أيام صلاح الدين يوسف بن أيوب، رحمه الله تعالى، فلما توفي وملك أولاده بعده، كما ذكرناه، جدد الملك العزيز الهدنة مع الكند هري وزاد في مدة الهدنة، وبقي ذلك إلى الآن.
وكان بمدينة بيروت أمير يعرف بأسامة، وهو مقطعها، فكان يرسل الشواني تقطع الطريق على الفرنج، فاشتكى الفرنج من ذلك غير مرة إلى الملك العادل بدمشق، وإلى الملك العزيز بمصر، فلم يمنعا أسامة من ذلك، فأرسلوا إلى ملوكهم الذين داخل البحر يشتكون إليهم ما يفعل بهم المسلمون، ويقولون: إن لم تنجدونا، وإلا أخذ المسلمون البلاد؛ فأمدهم الفرنج بالعساكر الكثيرة، وكان أكثرهم من ملك الألمان، وكان المقدم عليهم قسيس يعرف بالخنصلير، فلما سمع العادل بذلك أسل إلى العزيز بمصر يطلب العساكر، وأرسل إلى ديار الجزيرة الموصل يطلب العساكر، فجاءته الأمداد واجتمعوا على عين الجالوت، فأقاموا شهر رمضان وبعض شوال، ورحلوا إلى يافا، وملكوا المدينة، وامتنع من بها بالقلعة التي لها، فخرب المسلمون المدينة، وحصروا القلعة، فملكوها عنوة وقهراً بالسيف في يومها، وهو يوم الجمعة، وأخذ كل ما بها غنيمة وأسراً وسبياً، ووصل الفرنج من عكا إلى قيسارية ليمنعوا المسلمين عن يافا، فوصلهم الخبر بها بملكها فعادوا.
وكان سبب تأخرهم أن ملكهم الكندي هري سقط من موضع علا بعكا فمات، فاختلت أحوالهم فتأخروا لذلك.
وعاد المسلمون إلى عين الجالوت، فوصلهم الخبر بأن الفرنج على عزم قصد بيروت، فرحل العادل والعسكر في ذي القعدة إلى مرج العيون، وعزم على تخريب بيروت، فسار إليها جمع من العسكر، وهدموا سور المدينة سابع ذي الحجة، وشرعوا في تخريب دورها وتخريب القلعة، فمنعهم أسامة من ذلك، وتكفل بحفظها.
ورحل الفرنج من عكا إلى صيدا، وعاد عسكر المسلمين من بيروت، فالتقوا الفرنج بنواحي صيدا، وجرى بينهم مناوشة، فقتل من الفريقين جماعة، وحجز بينهم الليل، وسار الفرنج تاسع ذي الحجة، فوصلوا إلى بيروت، فلما قاربوها هرب منها أسامة وجميع من معه من المسلمين، فملكوها صفواً عفواً بغير حرب ولا قتال، فكانت غنيمة باردة؛ فأسل العادل إلى صيدا من خرب ما كان بقي منها، فإن صلاح الدين كان قد خرب أكثرها، وسارت العساكر الإسلامية إلى صور، فقطعوا أشجارها، وخربوا ما لها من قرى وأبراج، فلما سمع الفرنج بذلك رحلوا من بيروت إلى صور، وأقاموا عليها.
ونزل المسلمون عند قلعة هونين وأذن للعساكر الشرقية بالعود ظناً منه أن الفرنج يقيمون ببلادهم، وأراد أن يعطي العساكر المصرية دستوراً بالعود، فأتاه الخبر، منتصف المحرم، أن الفرنج قد نازلوا حصن تبنين، فسير العادل إليه عسكراً يحمونه ويمنعون عنه، ورحل الفرنج من صور، ونازلوا تبنين أول صفر سنة أربع وتسعين وقاتلوا من به، وجدوا في القتال، ونقبوه من جهاتهم، فلما علم العادل بذلك أرسل إلى العزيز بمصر يطلب منه أن يحضر هو بنفسه، ويقول له: إن حضرت، وإلا فلا يمكن حفظ هذا الثغر؛ فسار العزيز مجداً فيمن بقي معه من العساكر.
وأما من بحصن تبنين فإنهم لما رأوا النقوب قد خربت تل القلعة، ولم يبق إلا أن يملكوها بالسيف، نزل بعض من فيها إلى الفرنج يطلب الأمان على أنفسهم وأموالهم ليسلموا القلعة، وكان المرجع إلى القسيس الخنصلير من أصحاب ملك الألمان، فقال لهؤلاء المسلمين بعض الفرنج الذين من ساحل الشام: إن سلمتم الحصن استأسركم هذا وقتلكم؛ فاحفظوا نفوسكم؛ فعادوا كأنهم يراجعون من في القلعة ليسلموا، فلما صعد إليها أصروا على الامتناع، وقاتلوا قتال من يحمي نفسه، فحموها إلى أن وصل الملك العزيز إلى عسقلان في ربيع الأول، فلما سمع الفرنج بوصوله واجتماع المسلمين، وأن الفرنج ليس لهم ملك يجمعهم، وأن أمرهم إلى امرأة، وهي الملكة، اتفقوا وأرسلوا إلى ملك قبرس واسمه هيمري، فأحضروه، وهو أخو الملك الذي أسر بحطين، كما ذكرناه، فزوجوه بالملكة زوجة الكند هري، وكان رجلاً عاقلاً يحب السلامة والعافية، فلما ملكهم لم يعد إلى الزحف على الحصن، ولا قاتله.
واتفق وصول العزيز أول شهر ربيع الآخر، ورحل هو والعساكر إلى جبل الخليل الذي يعرف بجبل عاملة، فأقاموا أياماً، والأمطار متداركة، فبقي إلى ثالث عشر الشهر، ثم سار وقارب الفرنج، وأرسل رمالة النشاب، فرموهم ساعة وعادوا، ورتب العساكر ليزحف إلى الفرنج ويجد في قتالهم، فرحلوا إلى صور خامس عشر الشهر المذكور ليلاً، ثم رحلوا إلى عكا، فسار المسلمون فنزلوا اللجون، وتراسلوا في الصلح، وتطاول الأمر، فعاد العزيز إلى مصر قبل انفصال الحال.
وسبب رحيله أن جماعة من الأمراء، وهم ميمون القصري، وأسامة، وسرا سنقر، والحجاف، وابن المشطوب، وغيرهم، قد عزموا على الفتك به وبفخر الدين جركس مدبر دولته، وضعهم العادل على ذلك، فلما سمع بذلك سار إلى مصر وبقي العادل، وترددت الرسل بينه وبين الفرنج في الصلح، فاصطلحوا على أن تبقى بيروت بيد الفرنج، وكان الصلح في شعبان سنة أربع وتسعين، فلما انتظم الصلح عاد العادل إلى دمشق، وسار منها إلى ماردين، من أرض الجزيرة، فكان ما نذكره، إن شاء الله تعالى.

.ذكر وفاة سيف الإسلام وملك ولده:

في شوال من هذه السنة توفي سيف الإسلام طغتكين بن أيوب: أخو صلاح الدين، وهو صاحب اليمن، بزبيد، وقد ذكرنا كيف ملك. وكان شديد السيرة، مضيقاً على رعيته، يشتري أموال التجار لنفسه ويبيعها كيف شاء.
وأراد ملك مكة، حرسها الله تعالى، فأرسل الخليفة الناصر لدين الله إلى أخيه صلاح الدين في المعنى، فمنعه من ذلك، وجمع من الأموال ما لا يحصى، حتى إنه من كثرته كان يسبك الذهب ويجعله كالطاحون ويدخره.
ولما توفي ملك بعده ابنه إسمعيل، وكان أهوج، كثير التخليط بحيث إنه ادعى أنه قرشي من بني أمية، وخطب لنفسه بالخلافة، وتلقب بالهادي، فلما سمع عمه الملك العادل ذلك ساءه وأهمه، وكتب إليه يولمه ويوبخه، ويأمره بالعود إلى نسبه الصحيح، وبترك ما ارتكبه مما يضحك الناس منه، فلم يلتفت إليه ولم يرجع وبقي كذلك، وانضاف إلى ذلك أنه أساء السيرة مع أجناده وأمرائه، فوثبوا عليه فقتلوه، وملكوا عليهم بعده أميراً من مماليك أبيه.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في ربيع الآخر، توفي أبو بكر عبد الله بن منصور بن عمران الباقلاني المقري الواسطي بها عن ثلاث وتسعين سنة وثلاثة أشهر وأيام، وهو آخر من بقي من أصحاب القلانسي.
وفي جمادى الآخرة توفي قاضي القضاة أبو طالب علي بن علي بن البخاري ببغداد ودفن بتربته في مشهد باب التين.
وفيها، في ربيع الآخر، توفي ملكشاه بن خوارزم شاه تكش بنيسابور، وكان أبوه قد جعله فيها، وأضاف إليه عساكر جميع بلاده التي بخراسان وجعله ولي عهده في الملك، وخلف ولداً اسمه هندوخان، فلما مات جعل فيها أبوه خوارزم شاه بعد ولده الآخر قطب الدين محمداً، وهو الذي ملك بعد أبيه، وكان بين الأخوين عداوة مستحكمة أفضت إلى أن محمداً لما ملك بعد أبيه هرب هندوخان بن ملكشاه منه على ما نذكره.
وفيها توفي شيخنا أبو القاسم يعيش بن صدقة بن علي الفراتي الضرير، الفقيه الشافعي، كان إماماً في الفقه، مدرساً صالحاً كثير الصلاح، سمعت عليه كثيراً، لم أر مثله، رحمه الله تعالى.
ولقد شاهدت منه عجباً يدل على دينه وإرادته، بعمله، وجه الله تعالى، وذلك أني كنت أسمع عليه ببغداد سنن أبي عبد الرحمن النسائي، وهو كتاب كبير، والوقت ضيق لأني كنت مع الحجاج قد عدنا من مكة، حرسها الله، فبينما نحن نسمع عليه مع أخي الأكبر مجد الدين أبي السعادات، إذ قد أتاه إنسان من أيان بغداد، وقال له: قد برز الأمر لتحضر لأمر كذا؛ فقال: أنا مشغول بسماع هؤلاء السادة، ووقتهم يفوت، والذي يراد مني لا يفوت؛ فقال: أنا لا أحسن أذكر هذا في مقابل أمر الخليفة. فقال: لا عليك! قل: قال أبو القاسم لا أحضر حتى يفرغ السماع؛ فسألناه ليمشي معه، فلم يفعل ذلك، وقال: اقرأوا؛ فقرأنا، فلما كان الغد حضر غلام لنا، وذكر أن أمير الحاج الموصلي قد رحل، فعظم الأمر علينا فقال: ولم يعظم عليكم العود إلى أهلكم وبلدكم؟ فقلنا: لأجل فراغ هذا الكتاب؛ فقال: إذا رحلتم أستعير دابة وأركبها، فأسير معكم وأنتم تقرأون، فإذا فرغتم عدت. فمضى الغلام ليتزود، ونحن نقرأ، فعاد وذكر أن الحاج لم يرحلوا، ففرغنا من الكتاب؛ فانظر إلى هذا الدين المتين يرد أمر الخليفة وهو يخافه ويرجوه، ويريد أن يسير معنا ونحن غرباء لا يخافنا ولا يرجونا. ثم دخلت:

.سنة أربع وتسعين وخمسمائة:

.ذكر وفاة عماد الدين وملك ولده قطب الدين محمد:

في هذه السنة، في المحرم، توفي عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي ابن اقسنقر، صاحب سنجار ونصيبين، والخابور والرقة، وقد تقدم ذكره كيف ملكها سنة تسع وسبعين، وملك بعده ابنه قطب الدين محمد، وتولى تدبير دولته مجاهد الدين يرنقش مملوك أبيه، وكان ديناً خيراً عادلاً، حسن السيرة في رعيته، عفيفاً عن أموالها وأملاكهم، متواضعاً، يحب أهل العلم والدين، ويحترمهم، ويجلس معهم، ويرجع إلى أقوالهم، وكان رحمه الله شديد التعصب على مذهب الحنفية، كثير الذم للشافعية، فمن تعصبه أنه بني مدرسة للحنفية بسنجار، وشرط أن يكون النظر للحنفية من أولاده دون الشافعية، وشرط أن يكون البواب والفراش على مذهب أبي حنيفة، وشرط للفقهاء طبيخاً يطبخ لهم كل يوم، وهذا نظر حسن، رحمه الله.

.ذكر ملك نور الدين نصيبين:

في هذه السنة، في جمادة الأولى، سار نور الدين أرسلان شاه بن مسعود ابن مودود صاحب الموصل، إلى مدينة نصيبين، فملكها، وأخذها من ابن عمه قطب الدين محمد.
وسبب ذلك أن عمه عماد الدين كان له نصيبين، فتطاول نوابه بها، واستولوا على عدة قرى من أعمال بين النهرين من ولاية الموصل، وهي تجاور نصيبين، فبلغ الخبر مجاهد الدين قايماز القائم بتدبير مملكة نور الدين بالموصل وأعمالها والمرجوع إليه فيها، فلم يعلم مخدومه نور الدين بذلك، لما علم من قلة صبره على احتمال مثل هذا، وخاف أن يجري خلف بينهم، فأرسل من عنده رسولاً إلى عماد الدين في المعنى، وقبح هذا الفعل الذي فعله النواب بغير أمره، وقال: أنني ما أعلمت نور الدين بالحال لئلا يخرج عن يدك، فإنه ليس كوالده، وأخاف أن يبدو منه ما يخرج الأمر فيه عن يدي؛ فأعاد الجواب: إنهم لم يفعلوا إلا ما أمرتهم به، وهذه القرى من أعمال نصيبين.
فترددت الرسل بينهما، فلم يرجع عماد الدين عن أخذها، فحينئذ أعلم مجاهد الدين نور الدين بالحال، فأرسل نور الدين رسولاً من مشايخ دولته ممن خدم جدهم الشهيد زنكي ومن بعده، وحمله رسالة فيها بعض الخشونة، فمضى الرسول فلحق عماد الدين وقد مرض، فلما سمع الرسالة لم يلتفت، وقال: لا أعيد ملكي؛ فأشار الرسول من عنده، حيث هو من مشايخ دولتهم، بترك اللجاج، وتسليم ما أخذه، وحذره عاقبة ذلك؛ فأغلظ عليه عماد الدين القول، وعرض بذم نور الدين واحتقاره، فعاد الرسول وحكى لنور الدين جلية الحال، فغضب لذلك، وعزم على المسير إلى نصيبين وأخذها من عمه.
فاتفق أن عمه مات، وملك بعده ابنه، فقوي طمعه، فمنعه مجاهد الدين فلم يمتنع وتجهز وسار إليها، فلما سمع قطب الدين صاحبها سار إليها من سنجار في عسكره، ونزل عليها ليمنع نور الدين عنها، فوصل نور الدين، وتقدم إلى البلد، وكان بينهما نهر، فجازه بعض أمرائه، وقاتل من بإزائه، فلم يثبتوا له، فعبر جميع العسكر النوري، وتمت الهزيمة على قطب الدين، فصعد هو ونائبه مجاهد الدين يرنقش إلى قلعة نصيبين، وأدركهم الليل، فخرجوا منها هاربين إلى حان، وراسلوا الملك العادل أبا بكر بن أيوب، صاحب حران وغيرها، وهو بدمشق، وبذلوا له الأموال الكثيرة لينجدهم ويعيد نصيبين إليهم.
وأقام نور الدين بنصيبين مالكاً لها، فتضعضع عسكره بكثرة الأمراض، وعودهم إلى الموصل، وموت كثير منهم، ووصل العادل إلى الديار الجزرية، فحينئذ فارق نور الدين نصيبين وعاد إلى الموصل في شهر رمضان، فلما فارقها تسلمها قطب الدين.
وممن توفي من أمراء الموصل: عز الدين جورديك، وشمس الدين عبد الله بن إبراهيم، وفخر الدين عبد الله بن عيسى المهرانيان، ومجاهد الدين قايماز، وظهير الدين يولق بن بلنكري، وجمال الدين محاسن وغيرهم، ولما عاد نور الدين إلى الموصل قصد العادل قلعة ماردين فحصرها، وضيق على أهلها، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

.ذكر ملك الغورية مدينة بلخ من الخطا الكفرة:

في هذه السنة ملك بهاء الدين سام بن محمد بن مسعود، وهو ابن أخت غياث الدين وشهاب الدين صاحبي غزنة وغيرها، وله باميان، مدينة بلخ، وكان صاحبها تركياً اسمه أزيه، وكان يحمل الخراج كل سنة إلى الخطا، بما وراء النهر، فتوفي هذه السنة، فسار بهاء الدين سام إلى المدينة، فملكها، وتمكن فيها، وقطع الحمل إلى الخطا، وخطب لغياث الدين، وصارت من جملة بلاد الإسلام بعد أن كانت في طاعة الكافر.

.ذكر انهزام الخطا من الغورية:

وفي هذه السنة عبر الخطا نهر جيحون إلى ناحية خراسان، فعاثوا في البلاد وأفسدوا، فلقيهم عسكر غياث الدين الغوري وقاتلهم فانزم الخطا.
وكان سبب ذلك أن خوارزم شاه تكش كان قد سار إلى بلد الري، وهمذان وأصفهان وما بينهما من البلاد، وملكها، وتعرض إلى عساكر الخليفة، وأظهر طلب السلطنة والخطبة ببغداد، فأرسل الخليفة إلى غياث الدين ملك الغور وغزنة يأمره بقصد بلاد خوارزم شاه ليعود عن قصد العراق، وكان خوارزم شاه قد عاد إلى خوارزم، فراسله غياث الدين يقبح له فعله، ويتهدده بقصد بلاده وأخذها، فأرسل خوارزم شاه إلى الخطا يشكو إليهم من غياث الدين، ويقول: إن لم تدركوه بإنفاذ العساكر، وإلا أخذ غياث الدين بلاده، كما أخذ مدين بلخ، وقصد بعد ذلك بلادهم، ويتعذر عليهم منعه، ويعجزون عنه، ويضعفون عن رده عما وراء النهر؛ فجهز ملك الخطا جيشاً كثيفاً، وجعل مقدمهم المعروف بطاينكوا، وهو كالوزير له، فساروا وعبروا جيحون في جمادى الآخرة، وكان الزمان شتاء، وكان شهاب الدين الغوري أخو غياث الدين ببلاد الهند، والعساكر معه، وغياث الدين به من النقرس ما يمنعه من الحركة، إنما يحمل في محفة، والذي يقود الجيش ويباشر الحروب أخوه شهاب الدين، فلما وصل الخطا إلى جيحون سار خوارزم شاه إلى طوس، عازماً على قصد هراة ومحاصرتها، وعبر الخطا النهر، ووصلوا إلى بلاد الغور مثل: كرزبان وسرقان وغيرهما، وقتلوا وأسروا ونهبوا وسبوا كثيراً لا يحصى، فاستغاث الناس بغياث الدين، فلم يكن عنده من العساكر ما يلقاهم بها، فراسل الخطا بهاء الدين سام ملك باميان يأمرونه بالإفراج عن بلخ، أو أنه يحمل ما كان من قبله يحمله من المال، فلم يجبهم إلى ذلك.
وعظمت المصيبة على المسلمين بما فعله الخطا، فانتدب الأمير محمد بن جربك الغوري، وهو مقطع الطالقان من قبل غياث الدين، وكان شجاعاً، وكاتب الحسين بن خرميل، وكان بقلعة كرزبان، واجتمع معهما الأمير حروش الغوري، وساروا بعساكرهم إلى الخطا، فبيتوهم، وكبسوهم ليلاً، ومن عادة الخطا أنهم لا يخرجون من خيامهم ليلاً، ولا يفارقونها، فآتاهم هؤلاء الغورية وقاتلوهم، وأكثروا القتل في الخطا، وانهزم من سلم منهم من القتل، وأين ينهزمون والعسكر الغوري خلفهم، وجيحون بن أيديهم؟ وظن الخطا أن غياث الدين قد قصدهم في عساكره، فلما أصبحوا، وعرفوا من قاتلهم، وعلموا أن غياث الدين بمكانه، قويت قلوبهم، وثبتوا واقتتلوا عامة نهارهم فقتل من الفريقين خلق عظيم، ولحقت المتطوعة بالغوريين، وأتاهم مدد من غياث الدين وهم في الحرب، فثبت المسلمون، وعظمت نكايتهم في الكفار.
وحمل الأمير حروش على قلب الخطا، وكان شيخاً كبيراً، فأصابه جراحة توفي منها، ثم إن محمود بن جربك، وابن خرميل حملا في أصحابهما، وتمادوا: لا يرم أحد بقوس، ولا يطعن برمح؛ وأخذوا اللتوت، وحملوا على الخطا فهزموهم وألحقوهم بجيحون، فمن صبر قتل، ومن ألقى نفسه في الماء غرق.
ووصل الخبر إلى ملك الخطا فعظم عليه وأرسل إلى خوارزم شاه يقول له: أنت قتلت رجالي، وأريد عن كل قتيل عشرة آلاف دينار؛ وكان القتلى اثني عشر ألفاً، وأنفذ إليه من رده إلى خوارزم، وألزموه بالحضور عنده، فأرسل حينئذ خوارزم شاه إلى غياث الدين يعرفه حاله مع الخطا، ويشكو إليه ويستعطفه غير مرة، فأعاد الجواب يأمره بطاعة الخليفة، وإعادة ما أخذه الخطا من بلاد الإسلام، فلم ينفصل بينهما حال.